فصل: تفسير الآيات (14- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (12- 13):

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}
وقوله سبحانه: {وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ...} الآية، ويليق هنا ذكْرُ شيء مِنْ حُكْمٍ طعن الذميِّ في الدِّين، والمشهورُ من مذْهَب مالِكٍ: أنه إِذا فعل شيئاً من ذلك؛ مِثْلُ تكذيبِ الشريعة، وسبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ.
وقوله سبحانه: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر}، أي: رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودُونَ الناس إِليه، وأصوبُ ما يقال في هذه الآية: أنه لا يُعْنَى بها معيَّنٌ وإِنما وَقَعَ الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكَفَرةِ إِلَى يوم القيامة، واقتضت حالُ كفَّار العرب ومحارِبي النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَن تكون الإِشارة إِليهم أَولاً، ثم كُلُّ مَنْ دَفَعَ في صدر الشريعة إِلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم.
وقرأ الجمهور: {لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} جَمْع يمين، أي: لا أيمان لهم يُوفَى بها وتُبَرُّ، وهذا المعنَى يشبه الآيةَ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة: {لا إِيمَانَ لَهُمْ}، وهذا يحتملُ وجهين:
أحدهما: لا تصديقَ لهم، قال أبو عَليٍّ: وهذا غَيْرُ قويٍّ؛ لأنه تكريرٌ، وذلك أنه وَصَفَ أَئمَّة الكُفْرِ بأنهم لا إِيمان لهم، والوجْه في كَسْر الألفِ أَنَّه مصْدَرٌ من آمَنْتُهُ إِيماناً؛ ومنه قوله تعالى: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] فالمعنى: أنهم لاَ يُؤَمَّنُونَ كما يُؤَمَّنُ أَهْلُ الذمَّة الكتابيُّون؛ إِذ المشركون ليس لهم إِلا الإِسلام أو السَّيْفَ، قال أبو حاتمْ: فَسَّر الحَسَنُ قراءته: لا إِسلام لهم.
قال * ع *: والتكريرُ الذي فَرَّ أبو عَلِيٍّ منه متَّجِهٌ، لأنه بيانُ المهمِّ الذي يوجبُ قَتْلهم.
وقوله عز وجل: {أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول...} الآية: {ألا}: عَرْضٌ وتحضيضٌ، قال الحسن: والمراد ب {إِخْرَاجٍ الرسول}: إخراجُه من المدينة، وهذا مستقيمٌ؛ كغزوة أُحُدٍ والأحزاب.
وقال السديُّ: المرادُ مِنْ مَكَّة.
وقوله سبحانه: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، قيل: يراد أفعالهم بمكَّة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبالمؤمنين.
وقال مجاهدٌ: يراد به ما بَدَأَتْ به قريشٌ مِنْ معونة بني بَكْر حلفائِهِمْ، على خُزَاعَةَ حلفاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكان هذا بَدْءَ النقْض.
وقال الطبريُّ: يعني فعْلَهم يَوْمَ بدر.
قال الفَخْر: قال ابن إِسحاق والسُّدِّيُّ والكَلَبِيُّ: نزلَتْ هذه الآية في كفَّار مَكَّة؛ نكثوا أيمانهم بعد عَهْدِ الحديبية، وأعانوا بني بَكْر عَلَى خُزَاعة. انتهى.
وقوله سبحانه: {أَتَخْشَوْنَهُمْ}: استفهام على معنى التقرير والتوبيخ، {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ}، أي: كَامِلِي الإِيمان.

.تفسير الآيات (14- 15):

{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
وقوله سبحانه: {قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ}، قرّرت الآياتُ قبلها أفعالَ الكَفَرة، ثم حضَّ على القتال مقترناً بذنوبهم؛ لتنبعث الحميَّة مع ذلك، ثم جزم الأمْرَ بقتالِهِمْ في هذه الآيةَ مقترناً بوَعْدٍ وكِيدٍ يتضمَّن النصْرَ عَلَيْهِم، والظَّفَرَ بهم.
وقوله سبحانه: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ}، معناه: بالقتل والأسر، و{وَيُخْزِهِمْ}، معناه: يذلَّهم علَى ذنوبهم، يقال: خَزِيَ الرجُلُ يَخْزَى خَزْياً، إِذا ذَلَّ من حيثُ وَقَعَ في عَارٍ، وأَخْزَاهُ غيره، وخزي يخزي خزاية إذا استحى، وأما قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، فيحتمل أنْ يريد جماعةَ المؤمنين، لأن كلَّ ما يهدُّ من الكُفْرِ هو شفاءٌ مِنْ هَمِّ صدور المؤمنين، ويحتمل أنْ يريد تخصيصَ قومٍ من المؤمنين، وروي أنهم خُزَاعَةْ؛ قاله مجاهدٌ والسُّدِّيُّ، ووجْه تخصيصهم أنهم الذين نُقِضَ فيهم العهدُ، ونالتهم الحربُ، وكان يومئذٍ في خُزَاعَةَ مؤمنون كثير؛ ويقتضي ذلك قولُ الخزاعيِّ المستَنْصِرِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم: [الرجز]
ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا ** وفي آخر الرجز:

وَقَتَّلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا **...............

وقرأ جمهور الناس: و{يَتُوبُ}- بالرفع-، على القطْع مما قبله، والمعنَى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يَتُوبُ على بعض هؤلاء الكَفَرة الذين أَمَرَ بقتالهم.
وعبارةُ * ص *: و{يَتُوب}، الجمهورُ بالرّفْعِ على الاستئناف، وليس بداخلٍ في جوابِ الأمر؛ لأن توبته سبحانه على مَنْ يشاء لَيْسَتْ جزاءً على قتال الكُفَّار. انتهى.

.تفسير الآيات (16- 18):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
وقوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ...} الآية: خطابٌ للمؤمنين؛ كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة...} الآية [آل عمران: 142] ومعنى الآية: أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحانٍ، والمراد بقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله}، أي: لم يعلم اللَّه ذلك موْجُوداً؛ كما عَلِمَهُ أَزلاً بشرط الوجود، وليس يَحْدُثُ له علْم تبارك وتعالى عن ذلك، و{وَلِيجَةً}: معناه: بِطَانَة ودَخِيلة، وهو مأخوذ من الوُلُوج، فالمعنى: أَمْراً باطناً مما يُنْكَر، وفي الآيةِ طَعْنٌ على المنافقين الذين اتخذوا الوَلاَئِجَ، قال الفَخْر: قال أبو عُبَيْدَة: كلّ شيءٍ أدخلْتَه في شيءٍ ليس منه، فهو وَلِيجةٌ، وأصله من الوُلُوج، قال الواحديُّ يقال: هو وَلِيجَةٌ، للواحدِ والجمع. انتهى.
وقوله سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ}، إِلى قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ آمَنَ بالله...} الآية، لفظ هذه الآية الخَبَرُ، وفي ضمنها أمر المُؤمنين بِعَمارة المساجد، وروي أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ؛ أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ، فاشهدوا لَهُ بالإِيمان». * ت *: زاد ابن الخَطِيبِ في روايته: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الأخر}. انتهى من ترجمة محمَّد بنِ عبدِ اللَّهِ، وفي الحديثِ عَنْه صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِمَنْ كَانَتْ المَسَاجِدُ بَيْتَهُ الأَمْنَ، والأَمَانَ، وَالجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ القِيَامَةِ» خَرَّجه عليُّ بن عبد العزيز البَغَوِّيُّ في المُسْنَد المُنْتَخَب له، وروى البغويُّ أيضاً في هذا المسند، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَوْطَنَ الرَّجُلُ المَسَاجِدَ بِالصَّلاَةِ، وَالذِّكْرِ، تَبَشْبَش اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الغَائِبِ لِغَائِبِهمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ» انتهى من الكَوْكَب الدُّرِّيِّ، قيل: ومعنى يَتَبَشْبَشُ: أي يفرح به.
وقوله سبحانه: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله}، يريد: خشيةَ التعظيمِ والعبادةِ، وهذه مرتبةُ العَدْل من الناس، ولا محالة أَنَّ الإِنسان يخشَى غيره، ويخشَى المحاذيرَ الدنيويَّة، وينبغي أن يخشَى في ذلك كلِّه قضاءَ اللَّهِ وتصريفَهُ.

.تفسير الآيات (19- 22):

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
وقوله سبحانه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} {سِقَايَةَ الحاج}: كانَتْ في بني هَاشِمٍ، وكان العبَّاس يتولاَّها، قال الحسن: ولما نزلَتْ هذه الآيةُ، قال العبَّاس: ما أَراني إلاَّ أتركُ السقايةَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ» {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام}: قيلَ: هي حِفْظه ممَّن يظلم فيه، أو يقول هُجْراً، وكان ذلك إِلى العبَّاس، وقيل: هي السّدَانَة وَخِدْمَةِ البَيْت خَاصَّة، وكان ذلك في بني عَبْد الدَّار، وكان يتولاَّها عثمانُ بنُ طَلْحَة، وابنُ عمه شَيْبَةُ، وأقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهما ثَانِيَ يَوْمِ الفتحِ، وقال: «خُذَاهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لاَ يُنَازِعُكُمُوهَا إِلاَّ ظَالِمٌ».
واختلف الناس في سبب نزولِ هذه الآية، فقال مجاهدٌ: أُمرُوا بالهجرة، فقال العبَّاس: أنا أسقي الحاجَّ، وقال عثمانُ بن طلحة: أنا حاجبُ الكَعْبَة، وقال محمدُ بنُ كَعْب: إِن العبَّاس وعليًّا وعثمان بن طلحة تَفَاخَرُوا فنزلَتِ الآية، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا في سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله...} الآية: لما حكم سبحانه في الآية المتقدِّمة بأن الصِّنفين لا يستوون، بيَّن ذلك في هذه الآية الأخيرة، وأوضحه، فعدَّد الإِيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفْس، وحَكَم عَلَى أنَّ أهل هذه الخصالِ أَعظمُ درجةً عند اللَّه مِنْ جميع الخَلْقِ، ثم حَكَمَ لهم بالفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ ورضْوانه، والفَوْزُ: بلوغُ البُغْيَةْ، إمَّا في نيل رَغِيبَة، أو نجاةٍ من هَلَكَة، ويَنْظُرُ إِلى معنَى هذه الآية الحديثُ: «دَعُوا لي أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نِصِيفَهُ»؛ ولأن أصحاب هذه الخِصَال علَى سيوفهم انبنى الإِسلام، وتمهَّد الشرْعُ.
وقوله سبحانه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان}، هذا وعْدٌ كريمٌ مِنْ ربٍّ رحيمٍ، وفي الحديث الصحيح: «إِذَا استقر أَهْلُ الجَنَّةِ في الجَنَّة، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لاَ نَرْضَى، يَا رَبَّنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّي سَأُعْطِيَكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك! رِضْوَانِي أَرْضَى عَلَيْكُمْ؛ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَداً...» الحديثَ.

.تفسير الآيات (23- 24):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان}، ظاهر هذه المخاطبة: أنها لجميع المؤمنين كافَّة، وهي باقيةُ الحُكْمِ إلى يوم القيامة، وروتْ فرقة أنها نزلَتْ في الحَضِّ على الهجرة، ورفضِ بلادِ الكُفْر.
قوله سبحانه: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ...} الآية: هذه الآيةُ تقوِّي مذهب مَنْ رأى أن هذه الآية والَّتي قبلها إنما مقصودُهُما الحَضِّ على الهجْرة، وفي ضمْن قوله: {فَتَرَبَّصُواْ}: وعيدٌ بيِّن.
وقوله: {بِأَمْرِهِ}، قال الحَسَنُ: الإشارة إلى عذابٍ أو عقوبةٍ من الله تعالى.
وقال مجاهدٌ: الإِشارة إِلى فتح مكَّة، وذكر الأَبناء في هذه الآية دون التي قَبْلَها، لما جلبتْ ذِكرهم المَحَبَّة، والأبناء: صَدْرٌ في المحبة وليسوا كذلك، في أن تتبع آراؤهم؛ كما في الآية المتقدمة، واقترفتموها: معناه: اكتسبتموها، ومساكِنُ: جَمْعُ مَسْكَنٍ- بفتح الكاف:، مَفْعَلٌ من السُّكْنَى، وما كان من هذا معتلَّ الفاءِ، فإِنما يأتي على مَفْعِلٍ بكسر العين؛ كموعِدٍ ومَوْطِنٍ.

.تفسير الآيات (25- 27):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
وقوله سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ...}، هذه مخاطبةٌ لجميع المؤمنين يعدِّد الله تعالى نِعَمَهُ عليهم، والمواطِنُ المُشَارُ إلَيْها بَدْرٌ والخَنْدَق والنَّضير وقُرَيْظة وخَيْبَر وغيرها، وحُنَيْنٌ وادٍ بين مكَّة والطائِف.
وقوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}، رُوِيَ أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ رَأَى جملته اثني عَشَرَ أَلْفاً: «لَنْ تُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ»، وروي أَنَّ رجلاً من أصحابه قالها فأَراد الله تعالى إظهار العجز؛ فظهر حين فَرَّ الناسُ.
* ت *: العجب جائزٌ في حقِّ غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو معصومٌ منه صلى الله عليه وسلم، والصوابُ في فَهْمِ الحديث، أَنه خَرَجَ مَخْرَجَ الإِخبار، لا على وجه العُجْب؛ وعلى هذا فَهِمُه ابنُ رُشْدٍ وغيره، وأَنه إِذا بلغَ عَدَدُ المسلمين اثني عشر ألفاً حُرِمَ الفِرَارُ، وإن زاد عددُ المُشْرِكين على الضِّعْف؛ وعليه عَوَّلَ في الفتوى، وقوله تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ}، معناه: بِرُحْبها؛ كأنه قال: عَلَى ما هي عليه في نَفْسها رَحْبةً واسعةً، لشدَّة الحال وَصُعوبتها؛ ف مَاء: مصدرية.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}، أي: فراراً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم واختصار هذه القصَّة: أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فتَحَ مكَّة، وكان في عَشَرة ألفاً منْ أصحابه، وانضاف إِليهم ألفانِ من الطُّلَقَاءِ، فصار في اثني عَشَرَ أَلافٍ، سمع بذلك كفَّار العرب، فشَقَّ عليهمِ، فجمعتْ له هوازنُ وألفافها، وعليهم مَالِكُ بن عوفٍ النصريُّ، وثقيفٌ، وعليهم عبْد يَالِيلَ بْنُ عَمْرُو وانضاف إِليهم أَخلاطٌ مِنَ الناس حتى كانوا ثلاثينَ أَلْفاً، فخرج إِليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا بحُنَيْنٍ، فلما تصافَّ الناسُ، حمل المشركون من مَحَانِي الوادِي، وانهزم المُسْلِمون، قال قتادة: وكان يقال: إِن الطلقاء مِنْ أَهْل مكَّةَ فرُّوا، وقصدوا إِلقَاءَ الهَزيمة في المُسْلمين، وكان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بغلته البَيْضَاء قد اكَتَنَفَهُ العَبَّاس عمُّه، وابنُ عَمِّه أبو سفيانَ بْنُ الحارثِ بنِ عبد المُطَّلبِ، وبَيْنَ يدَيْهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وثَمَّ قتل رحمه اللَّه والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول.
أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ ** أَنا ابن عَبْدِ المُطَّلِبْ

فلما رأَى نبيُّ صلى الله عليه وسلم شدَّةَ الحالِ، نَزَلَ عن بَغْلَتِهِ إِلى الأرض؛ قاله البَرَاءُ بنُ عازب، واستنصر اللَّه عَزَّ وجلَّ، فأَخَذَ قبضةً مِنْ ترابٍ وحصًى، فرمَى بها في وُجُوه الكُفَّار، وقال: «شَاهَت الوُجُوه»، ونادَى رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالأنصارِ، وأمَرَ العبَّاسَ أنْ ينادِيَ: «أَيْنَ أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ؟ أَيْنَ أَصْحَابُ سُورَةِ البَقَرةِ؟» فَرَجَعَ النّاسُ عَنَقاً واحداً للحَرْبِ، وتصافحوا بالسُّيوفِ والطَّعْنِ والضرب، وهناك قال عليه السلام: «الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ» وهزم اللَّهُ المشركين، وأَعْلَى كلمةَ الإِسلام إِلى يَوْمِ الدينِ، قال يَعْلَى بن عطاءٍ: فحدَّثني أبناءُ المنهزمين عَنْ آبائهم، قالوا: لم يَبْقَ منَّا أحَدٌ إِلا دخَلَ عينيه مِنْ ذلك التُّرَابِ واستيعابُ هذه القصة في كتب السِّيَر.
و{مُّدْبِرِينَ}: نصب على الحال المؤكِّدة؛ كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]، والمؤكِّدة هي التي يدلُّ ما قبلها عليها كدلالة التولِّي على الإِدبار.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ...} الآية: السكينةُ: النَّصْر الذي سَكَنَتْ إِليه ومعه النفُوسُ، والجنودُ: الملائكةُ، والرُّعْبُ؛ قال أبو حاجز يزيدُ بنُ عامرٍ: كان في أجوافنا مثلُ ضَرْبَةِ الحَجَرِ في الطَّسْتِ من الرُّعْبِ، {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ}، أيْ: بالقتل والأسْرِ، وروَى أبو داود، عن سهل بن الحَنْظَلِيَّة أنهم سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عشِيَّةً، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ مع رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انطلقت بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حتى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِم بظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ، وشِيَاهِهِمْ، اجتمعوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: «تِلْكَ غَنِيْمَةُ المُسْلِمِينَ غَداً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ» الحديثَ. انتهى، فكانوا كذلك غنيمةً بحَمْد اللَّه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم.